تعريف الصلح الواقي من الإفلاس

مقدمة

في ظل التغيرات الاقتصادية والتجارية المتسارعة التي تشهدها الأسواق العالمية والمحلية، يبرز الصلح الواقي من الإفلاس كأداة قانونية حيوية تهدف إلى الحفاظ على استمرارية المؤسسات المتعثرة اقتصاديًا ومنع تصفيتها أو إعلان إفلاسها. يعد هذا النظام القانوني بمثابة تدبير وقائي يمكن من خلاله إنقاذ المشروعات من الانهيار، وبالتالي حماية الاقتصاد الوطني من التداعيات السلبية الناتجة عن توقف الأعمال وخسارة رؤوس الأموال وفقدان الوظائف. الصلح الواقي من الإفلاس هو إجراء قانوني يتم اللجوء إليه بإرادة المدين، ويهدف إلى إعادة التوازن المالي لنشاطه الاقتصادي من خلال تسوية ديونه بموجب اتفاق يتم التصديق عليه قضائيًا، ويشارك فيه الدائنون.

تعريف الصلح الواقي من الإفلاس

الصلح الواقي من الإفلاس هو إجراء اختياري قانوني يمنحه المشرّع للتاجر المتعثر – ولكن غير المفلس – يسمح له بالتفاوض مع دائنيه حول إعادة تنظيم ديونه وسدادها وفقًا لشروط ميسرة، بهدف تفادي إشهار إفلاسه وتمكينه من استعادة توازنه المالي والاستمرار في نشاطه التجاري. يتم اللجوء إلى هذا الصلح عن طريق طلب يقدمه المدين إلى المحكمة المختصة، متى ما توفرت الشروط القانونية المحددة لذلك.

يعد الصلح الواقي من الإفلاس أحد الوسائل الوقائية التي تهدف إلى معالجة الصعوبات المالية قبل تحولها إلى حالة إفلاس قانونية، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد العام من خلال تقليل نسب التصفية، والحفاظ على الكيانات الاقتصادية واستمرارية التوظيف والاستثمار.

الإطار القانوني للصلح الواقي من الإفلاس

يختلف التنظيم القانوني للصلح الواقي من الإفلاس من دولة لأخرى، إلا أن معظم التشريعات، سواء العربية أو الغربية، تتفق على الخطوط العريضة لهذا النظام، وتضع له شروطًا صارمة لضمان عدم إساءة استخدامه. على سبيل المثال، ينص القانون التجاري في العديد من الدول العربية مثل مصر، والسعودية، والإمارات، والمغرب، على إمكانية التاجر المتعثر، ولكن حسن النية، أن يطلب الصلح الواقي من الإفلاس قبل تفاقم وضعه المالي.

وغالبًا ما يكون الصلح الواقي من الإفلاس منصوصًا عليه في قوانين الإفلاس أو الأنظمة المتعلقة بإعادة هيكلة الديون، كما هو الحال في “نظام الإفلاس السعودي” و”القانون الاتحادي بشأن الإفلاس في دولة الإمارات”، واللذين تبنيا نموذجًا عصريًا لهذا الإجراء بما يتوافق مع أفضل الممارسات الدولية.

الفرق بين الصلح الواقي من الإفلاس والإفلاس

شروط اللجوء إلى الصلح الواقي من الإفلاس

يخضع الصلح الواقي من الإفلاس لشروط قانونية دقيقة لضمان الجدية وحماية حقوق الدائنين:

1. أن يكون المدين تاجرًا: الصلح الواقي من الإفلاس لا يُمنح إلا للتجار سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أو اعتباريين (شركات)، وفقًا لتعريف التاجر في القانون التجاري المعمول به.

2. أن يواجه التاجر صعوبات مالية حقيقية: يجب أن يكون المدين في حالة اضطراب مالي حاد، وليس فقط في عجز مؤقت، بحيث تؤثر هذه الصعوبات على قدرته في تسوية ديونه، دون أن يكون في حالة توقف فعلي عن الدفع.

3. حسن النية وعدم وجود غش: يشترط ألا يكون المدين قد ارتكب أفعالًا تنم عن سوء نية، مثل إخفاء الأصول أو الاحتيال على الدائنين. إثبات حسن النية شرط أساسي للموافقة على طلب الصلح.

4. تقديم مقترح جدي لإعادة التنظيم: يجب أن يرافق طلب الصلح خطة مفصلة لإعادة الهيكلة، تتضمن آليات سداد الديون، والمدة الزمنية، ومصادر التمويل، وكيفية إدارة العمليات التجارية خلال فترة الصلح.

5. عدم سبق الإفلاس أو الصلح خلال مدة محددة: في بعض القوانين، يُشترط ألا يكون المدين قد استفاد من الصلح الواقي من الإفلاس أو أُعلن إفلاسه خلال فترة زمنية معينة تسبق الطلب الجديد.

مراحل الصلح الواقي من الإفلاس

1. تقديم الطلب إلى المحكمة المختصة

يبدأ الصلح الواقي من الإفلاس بتقديم طلب إلى المحكمة التجارية مرفقًا بالمستندات القانونية الداعمة، مثل القوائم المالية، والميزانيات، وسجل الدائنين، ومقترح خطة إعادة التنظيم.

2. تعيين مراقب أو خبير

تقوم المحكمة بتعيين مراقب أو خبير مالي يتولى دراسة الوضع المالي للمدين والتحقق من جدية الطلب، ويقوم بإعداد تقرير شامل يُعرض على المحكمة والدائنين.

3. قبول الطلب وتحديد الجلسة

إذا رأت المحكمة أن الطلب مستوفٍ للشروط، تحدد جلسة للنظر في مشروع الصلح، ويدعى إليها الدائنون لمناقشة المقترحات والتصويت عليها.

4. تصويت الدائنين

يشترط لصحة الصلح موافقة أغلبية الدائنين من حيث العدد والقيمة. هذه الموافقة تُعد ركنًا جوهريًا في النظام لأنها تعكس الإرادة الجماعية للمتضررين من الوضع المالي للمدين.

5. التصديق على الصلح

بعد موافقة الدائنين، تقوم المحكمة بالتصديق على الاتفاق ليكتسب القوة التنفيذية ويُصبح ملزمًا لجميع الأطراف، بمن فيهم الدائنون غير الموافقين أو غير الحاضرين.

6. تنفيذ الاتفاق ومراقبته

يبدأ المدين في تنفيذ بنود الصلح تحت إشراف المحكمة أو المراقب المعين، ويجب عليه الالتزام الصارم بالخطة المقررة. في حال الإخلال بها، يمكن للمحكمة إلغاء الصلح والشروع في إجراءات الإفلاس.

آثار الصلح الواقي من الإفلاس

1. وقف المطالبات الفردية

منذ تاريخ قبول طلب الصلح، يتم تعليق كافة الدعاوى الفردية والمطالبات القضائية ضد المدين، وهو ما يُعرف بأثر التجميد القضائي المؤقت. هذا يوفر للمدين فرصة التركيز على إعادة تنظيم نشاطه دون ضغط مستمر من الدائنين.

2. منع إشهار الإفلاس

طالما أن الصلح قائم ويتم تنفيذه كما هو متفق عليه، لا يجوز للدائنين طلب إشهار إفلاس المدين، ما يمنحه فرصة عملية للتعافي.

3. حماية أصول المدين

لا يجوز الحجز على أصول المدين أو التصرف فيها إلا في نطاق ما تسمح به خطة الصلح، وهو ما يمنع التصفية الفوضوية أو فقدان أصول ضرورية لاستمرار النشاط.

4. استعادة النشاط التجاري

من خلال إعادة جدولة الديون وتحسين التدفقات النقدية، يستطيع المدين استعادة الثقة في الأسواق وبدء دورة اقتصادية جديدة، قد تتضمن تمويلات إضافية واستثمارات.

مزايا الصلح الواقي من الإفلاس

• الحفاظ على المنشآت الاقتصادية: يعد الصلح أداة للحفاظ على استمرارية المشاريع القائمة بدلًا من تصفيتها.

• حماية الوظائف: يؤدي استمرارية النشاط التجاري إلى حماية فرص العمل داخل المؤسسة.

• حماية مصالح الدائنين: يضمن للدائنين فرصًا أفضل لاسترداد مستحقاتهم مقارنة بالتصفية.

• تقليل العبء القضائي: تسوية النزاعات داخل نظام الصلح توفر جهدًا قضائيًا كان سيتم استهلاكه في إجراءات الإفلاس الطويلة والمعقدة.

• مرونة النظام: إمكانية تعديل الاتفاق بما يتماشى مع التطورات المستقبلية في السوق أو في وضع المدين.

عيوب ومخاطر الصلح الواقي من الإفلاس

• خطر الإخلال بالاتفاق: قد يفشل المدين في تنفيذ التزاماته مما يضطر المحكمة لإلغاء الصلح.

• إساءة الاستعمال: في حال لم تُتحقق الرقابة القانونية الفعالة، يمكن لبعض المدينين استخدام الصلح كوسيلة لتأجيل الإفلاس لا أكثر.

• تأثير سلبي على سمعة التاجر: رغم كونه إجراء قانوني، قد ينظر السوق إلى التاجر الذي طلب الصلح باعتباره فاقدًا للثقة المالية.

• تعقيد الإجراءات: تتطلب العملية التزامًا دقيقًا بالإجراءات القضائية والمالية مما قد يصعب تطبيقها على المشروعات الصغيرة.

الصلح الواقي من الإفلاس في التشريعات العربية

تباينت النظم القانونية العربية في مدى تبنيها للصلح الواقي من الإفلاس، ولكن في العقود الأخيرة شهدت المنطقة تحولات قانونية كبيرة لإدخال هذه الآلية ضمن قوانينها التجارية والاقتصادية:

• في السعودية: أتاح نظام الإفلاس السعودي الصادر عام 2018 إجراءات متعددة لإعادة التنظيم منها “الصلح الواقي”، والذي يُمنح للتاجر المتعثر ويشرف عليه الأمين القضائي تحت رقابة لجنة الإفلاس.

• في الإمارات: ينص القانون الاتحادي بشأن الإفلاس على الصلح الواقي كخيار أولي قبل الوصول إلى مرحلة الإفلاس، ويعتمد على تعيين خبير لإعداد تقرير مفصل عن حالة المدين.

• في مصر: نظم قانون التجارة الصلح الواقي كإجراء مستقل عن الإفلاس، مع تركيز على دور المحكمة في مراقبة تنفيذ الاتفاق ومنع إساءة استخدامه.

• في المغرب وتونس: تم إدراج الصلح الواقي ضمن قوانين الإفلاس الحديثة كتدبير وقائي لحماية المؤسسات المتوسطة والصغيرة.

خاتمة

يمثل الصلح الواقي من الإفلاس أحد أهم الأدوات القانونية الحديثة التي توفر إطارًا فعالًا لمعالجة التعثر المالي دون اللجوء إلى الإجراءات القضائية التقليدية التي تؤدي إلى تصفية المشروعات. إن تطبيق هذا النظام بفعالية يتطلب تعاونًا وثيقًا بين السلطات القضائية والجهات الرقابية والدائنين، ويشكل خطوة محورية نحو اقتصاد متوازن ومستدام يعترف بضرورة دعم الكيانات الاقتصادية خلال فترات الأزمات المالية المؤقتة.

المراجع

1. نظام الإفلاس السعودي، الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، 2018.

2. القانون الاتحادي رقم (9) لسنة 2016 بشأن الإفلاس، وزارة الاقتصاد الإماراتية.